اتجاهاتتقاريرصحف عالمية

الشّعبوية والعقل البسيط

 

 

تنام تونس وتستفيق هذه الأيام على أخبار الاعتقالات التي تطال أفراداً من الطبقة السياسية المناهضة لنظام الرئيس قيس سعيد. لكن اللافت في الأمر، هو ما كشفت عنه محاضر التحقيقات التي تسرب بعضها إلى الرأي العام. نشطاء سياسيون من أحزاب متنوعة المشارب، ورجال أعمال وصحافيون، ونقابات ومنظمات من المجتمع المدني، كلهم متورطون في قضية تآمر واحدة على نظام سعيد. أي أن النظام جمع مختلف الأجسام الوسيطة، سياسياً وإعلامياً ونقابياً واقتصادياً، في ملف واحد ودفعةً واحدة.

 

والغريب أن بين هؤلاء خصومة لا تقل حدةً عن خصومتهم مع الرئيس نفسه. والأكثر غرابةً أن القضية تأسست على تقرير استخباري كتب على أساس شهادة شخص مجهول، والدليل الوحيد فيها إلى صحة التقرير هو نص التقرير نفسه.

 

لكن لماذا يجمع الرئيس التونسي جميع خصومه في قضية واحدة، مع أن الجميع يعلم أن من المستحيل أن يجتمعوا على أمر، حتى إن كان التآمر عليه وعلى نظامه؟ ينطلق سعيد في ذلك من أرضيته السياسية الشعبوية القائمة على الاختزال والتبسيط، مختزلاً المعارضة ضده في عدو واحد، ومبسطاً العلاقة بينه وبينهم في ثنائية الشر والخير.

 

لذلك فإن معارضة الرئيس ومساندته، ليس فيهما مكان وسط، وهو ما يطرح إشكالية كبيرة على قطاع واسع من الأحزاب القومية واليسارية التي ما زالت ترفع شعار “المساندة النقدية”، من دون وعي منها بأن لا وجود لأي نقدية في مساندة الرئيس، ضمن معادلة بسيطة: إما أن تساند مطلقاً أو أن تكون في معسكر الشر المقابل.

 

السياسة التقليدية مساحة نسبية للنشاط والتفكير تقوم على العقل الديالكتيكي، ويبني فيها أطراف العملية السياسية علاقات تقوم على الوحدة والصراع، أو ما يسمى في المادية الجدلية بصراع المتناقضات، وأساسه أن المتناقضات التي تؤثر في بعضها بعضاً تكون في دائرة واحدة، وأن المتناقضات تكون في وحدة واحدة، وإلا لما كان الصراع التطوري بالمفهوم الفلسفي.

اقرأ أيضاً:

لذلك فإن العقل السياسي التقليدي، سواءً كان ليبرالياً أم ماركسياً، هو عقل مركب، لا يلخص الوجود في ثنائية الأبيض والأسود، بل يخوض معظم صراعه على الحيز الرمادي. على العكس من ذلك تماماً يقوم العقل السياسي الشعبوي على المانوية الفكرية بمعناها المعاصر. وهي ضرب من التفكير المثالي الميتافيزيقي، يسعى إلى مقاربة العالم المادي النسبي.

 

والمانوية المقصودة في هذا السياق، هي مانوية بالمعنى المجازي والأدبي. وهو تفكير يتألف من تبسيط العلاقات بين العالم، واختزاله إلى معارضة بسيطة بين الخير والشر، حيث تحوّل الروح المانوية أي تمييز إلى تعارض وتقلل منهجياً من تعقيد الواقع إلى مصطلحين يستبعد كل منهما الآخر. من خلال اللجوء إلى القوالب النمطية ما ينكر صفات التعددية التي تطالب بها المجتمعات الحديثة، كما يصفها عالم الاجتماع جاك غراند مايسون.

 

ترامب: أستطيع حل نزاع أوكرانيا خلال 24 ساعة .. إذا صرت رئيساً

هذا العقل الشعبوي غير الجدلي والبسيط يقود كل مناحي نهجها السياسي. لذلك نجد نزوعاً شعبوياً نحو تفضيل الاستفتاءات، لأنها تقوم على ثنائية لا ونعم. فهي على العكس من الانتخابات المؤسسة على تعدد الخيارات، يريد الشعبويون منها دائماً حصر خيارات الناس في الأبيض والأسود.

ولفهم الشعبوية التونسية ونزوعها نحو الاستبداد بشكل أفضل، يجب وضع بعض الاعتبارات الأولية. وأبرزها أن هذه الشعبوية بأبعادها الرأسية والانقسام الجديد الذي تنشئه (الناس مقابل النخبة) غير مبالية أو حتى معادية للانقسامات التقليدية بين اليسار واليمين التي ترفض التوافق فيها.

 

إن الانقسام بين اليسار واليمين لا معنى له لأي شخص يدّعي أن المجتمع يتكون من الناس. الصادقين، العاملين الدؤوبين والمليئين بالفطرة السليمة، ولكن يتم استغلالهم من طرف أقلية، النخب المسؤولة عن تمثيله والذين خانوه.

 

اقرأ أيضاً:

لذلك فإن التجلي الأبرز للشعبوية عموماً، ولنسختها التونسية اليوم، هو إعادة البناء السوسيولوجي للناس في كيان مبسط، يميز النخبة الأوليغارشية التي يشار إليها بضمير الغائب الشيطاني. ضد “نحن”، الشعب الحقيقي والطاهر. أي إنهاء أي تقسيم طبقي اجتماعي واستبدال وحدة متخيلة به. حيث تستعيد الحركات الشعبوية هذه الوحدة لتوظيفها في هزيمة خصومها من النخب.

هذا التصور الشعبوي الراديكالي عن الشعب يقود إلى نتيجة أيديولوجية وسياسية سلطوية. من خلالها يتم التأكيد أن القيادة الفردية هي وحدها من يجسد تطلعات الشعب وتفسرها على أفضل وجه (وهو ما لا يستطيع النخب فعله).

لذلك يتم اختزال هذا السديم الواسع من الناس في النهاية في القائد الشعبوي. من خلال أسلوب خطابي ديماغوجي يجمع بين العاطفة والسياسة وفقاً لتقديم التناقضات السياسية في شكل تناقضات أخلاقية. وهذا الأسلوب هو المفضل لدى الرئيس قيس سعيد، الذي لا يفوّت فرصة في وصف خصومه بالسرطان والجراثيم والإرهابيين والفاسدين.

 

إن العقل الشعبوي البسيط الذي يقود تونس يمكن أن يقود البلاد، بسطحيته وعدم إدراكه تعقيد الواقع. إلى تمزق مجتمعي لن يكون الخروج منه سهلاً أو من دون تضحيات أو خسائر، وربما كوارث على كل المستويات.

يقود هذا التسطيح للواقع إلى نزعات فاشية يذكي نارها خطاب ديماغوجي غير مسؤول وتنفذها الغوغاء تحت تأثيرات خطابات “الزحف المقدس”. وهو ما ظهر جلياً في أعقاب التصريحات العنصرية التي أطلقها الرئيس سعيد ضد المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء. فحين يقسم العقل الشعبوي العالم إلى معسكر للخير وآخر للشرّ. فهو بذلك ينزع الشرعية الوجودية عن خصمه محاولاً إلغاءه، لا فقط سياسياً بل حتى جسدياً كما فعلت فاشيات النصف الأول من القرن العشرين.

 

 

أحمد نظيف – النهار العربي

المصدر
النهار العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى