اتجاهاتصحف عالميةمصرمقالات

مراجعات “الجماعة الإسلامية” في مصر بعد ربع قرن

 

 

قادت “الجماعة الإسلامية” العنف في مصر في فترة التسعينات من القرن الماضي، فقد كانت تراهن على الوصول إلى السلطة من خلال ممارسة العنف الذي أعطته صبغة شرعية في شكل عدد من البحوث والدراسات التي أصّلت فيها للعنف شكلاً ومضموناً، ومن خلال الممارسة العملية إذ قامت بتصفية المئات من المدنيين ورجال السياسة والقضاء ورجال الدين والفن والثقافة والإعلام أيضاً.

 

 

فرغم نشأة الجماعة في العام 1974 إلا أنها قررت قتل الرئيس المصري محمد أنور السادات في العام 1981. ونجحت في تنفيذ مخططها أثناء العرض العسكري للاحتفال بذكرى انتصار تشرين الأول (أكتوبر). ومنذ لحظة اغتيال الرئيس عملت على اغتيال الدولة بكل أجهزتها، وأنشأت لذلك الجناح العسكري في العام 1987، رغم أنها كانت تمارس العنف قبله بسنوات!

 

وهنا نؤكد أن العنف في تاريخ “الجماعة الإسلامية” في مصر لم يكن استثناءً، كما أنه لم يكن رد فعل، بل كان الفعل نفسه، فجينات الأفكار المؤسسة للجماعة منحازة الى العنف، وأفراد التنظيم ترجموا هذه الأفكار على أرض الواقع، وهذا رد على ما تروجه الجماعة من أن عنفها كان رد فعل على سياسة أجهزة الأمن ضدها!

 

في لحظة انهزام “الجماعة الإسلامية” قررت أن تراجع أفكارها، وغالباً ما يكون قرار المراجعات داخل الزنازين. وفي أقبية السجون، وهو ما حدث من أمراء “الجماعة الإسلامية” قبل ربع قرن. إذ رفضوا في بداية الأمر أي مراجعة وحاولوا التحايل عليها، فأرادوها تفاوضاً لا مراجعة، وحينما أغلقت الدولة هذا الباب اضطروا لإعلان مبادرة وقف العنف من طرف واحد.

 

 

وهنا وجدت الدولة نفسها أمام مسؤولياتها فقامت بتهذيب مشاعر هؤلاء المتطرفين حتى وصلت بهذه المبادرة إلى بر الأمان. هدف الدولة هنا هو حقن دماء الشباب وانتشال المغيبين منهم من بين مخالب التنظيم الذئب. الذي كان يخطف الحياة بالعنف والدماء.

اقرأ أيضاً:

 

وفي أول لقاء جمع اللواء أحمد رأفت، نائب رئيس جهاز أمن الدولة ومسؤول متابعة النشاط الديني المتطرف مع أمراء العنف داخل السجون ممثلين بمجلس شورى “الجماعة الإسلامية”. قال لهم أترون لماذا جمعناكم هنا؟ وكان يرمي إلى هدف الدولة من وراء قبول مبادرة وقف العنف والبناء عليها من المراجعات الفكرية والفقهية. إذ أضاف: “الدولة غير منزعجة ولا خطر منكم، فأنتم تملؤون السجون! ولكن الدولة تُريد أن تُغلق ملف العنف تماماً وحتى لا يبقى في صدور أبنائكم في المستقبل شيء تستغلونه أو يستغله غيركم في بث الكراهية ومعاودة ممارسة العنف مرة ثانية”.

 

وهنا ظهرت رجاحة عقل رجال الأمن وظهرت حكمة الدولة وقوتها في الوقت نفسه؛ سامحت عندما كانت قوية وقادرة. قبلت مراجعة المتطرفين وهي منتصرة عليهم. فرغم أنها عاقبت المخطئين بما يسمح لها به القانون والدستور، إلا أنها كانت تتعامل معهم من منطق أبوي صرف. فأينما كانت المصلحة العامة والخاصة كانت الدولة موجودة بأجهزتها، وهذا ما يمكن قوله في هذه المراجعات بعد مرور خمسة وعشرين عاماً عليها.

 

صحيح أن هناك من انقلب على المراجعات الفكرية والفقهية من قادة الجماعة وأعضائها. وهذا ليس خطأ في المراجعات ولا في تفاعل الدولة معها؛ مفهوم أن هناك من سيتبرأ من المراجعة ويعود إلى العنف مرة ثانية. فلا أحد من البشر يستطيع أن يطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور!

خدعة الفشل الأمريكي في العراق

فعودة العنف مقدرة ومفهومة وإن كانت غير متفهمة بطبيعة الحال، مثل عودة الورم السرطاني بعد الشفاء عند بعض المرضى. فهذا لا يمنع من السير في إجراءات الشفاء والوصول الى مرحلة التعافي. وهكذا كانت الدولة تتعامل مع قادة العنف في المراجعات.

 

لم يكن أمام الدولة إلا التعامل مع “الجماعة الاسلامية” المسلحة بهذه الصورة استشعاراً منها لأهمية اقتلاع العنف من جذوره؛ ففي اللقاءات الأولى التي جمعت المسؤول الأمني الأول في جهاز أمن الدولة مع أعضاء شورى التنظيم عرض أحدهم حل التنظيم. فرفض المسؤول الأمني المعني بالمواجهة. قائلاً: أنتم ربيتم أعضاء التنظيم على العنف ولا بد من أن تقنعوهم بعكس ذلك وأن تصححوا لهم هذه الأفكار قبل حل التنظيم. قرار الحل يأتي بعد تصحيح المفاهيم وليس قبله، وهنا كانت الحكمة في الإبقاء على التنظيم وليس في حله على الأقل في هذا التوقيت.

 

اقرأ أيضاً:

 

خرجت “الجماعة الإسلامية” من السجون ولكنها عادت إلى ممارسة العنف بعد العام 2013 بصوره المختلفة. اللفظي والسلوكي ومارست العنف الجنائي أيضاً ولكن في مستوى أقل من الذي مارسته في تسعينات القرن الماضي. ولم يكن قراراً جماعياً، بل ممارسات فردية لاقت هوى التنظيم وقادته.

 

صحيح أن قيادة “الجماعة الإسلامية” كانت تخرج بين الوقت والآخر بلقاء فكري تنتقد فيه تنظيم “داعش”. إلا أنها في الوقت نفسه تقر بسفر أعضائها الى ما أسمته “الجهاد” في سوريا! مفارقة تدل الى أفكار العنف التي ما زالت تسكن في عقل التنظيم وقادته وأنه لم يتخل عنها بصورة كاملة.

 

المراجعات الفكرية والفقهية عمل عظيم سودت صفحة بعض قيادات “الجماعة الإسلامية” التي انقلبت عليها لعيب فيها. ولكن هذه المراجعات تظل علامة فارقة في تاريخ أجهزة الأمن والمعلومات المصرية، التي نجحت مرتين. إحداهما في تفكيك هذه التنظيمات وثانيتهما في تهيئة المناخ للمراجعات الفكرية والفقهية لقادة أسوأ تنظيمات العنف في مصر.

 

فالدولة دائماً هي من تبادر بمد يدها الى كل من يريد أن يراجع أفكاره. ليس ذلك فقط، ولكنها تشجع على ذلك أيضاً وتخلق المناخ الداعم لهذه المراجعات.

 

وأعتقد أنها تفعل ذلك مع كل تنظيمات العنف والتطرف. بمن فيها “الإخوان المسلمون”، غير أن التنظيم لم يصل إلى المرحلة نفسها التي وصلت إليها “الجماعة الإسلامية” المسلحة أو تنظيم “الجهاد” من قبل. ولكن إذا حدث فلن تتأخر الدولة شرط أن تكون مراجعات صادقة وألا يكون الهدف منها محاولة الالتفاف على الموقف القانوني للتنظيم لإعادة إنتاج نفسه من جديد.

 

منير أديب – النهار العربي

 

المصدر
النهار العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى