اتجاهاتمقالات

التقشف سلاح التونسيين.. إلى حين

 

 

جولة في الأسواق الشعبية وفي المتاجر الكبرى داخل مراكز التسوق تكفي لمعرفة السلاح الذي اختاره التونسيون لمواجهة أزمة الغذاء العالمية وما رافق الأزمة من ارتفاع مشطٍ في الأسعار.. شدّ الأحزمة والاكتفاء بالضروريات.

 

منذ ثلاثة أيام احتفل العالم بعيد الحب (فالانتاين)، وتزامنت المناسبة مع بداية موسم التنزيلات، رغم ذلك خلت متاجر العاصمة تونس من المتسوقين.

 

ولم ينفضُ الناس عن شراء السلع والهدايا الفاخرة فقط، بل طال ذلك سلعاً في قفة المواطن التونسي اليومية، بعد أن تضاعفت أسعار المواد الغذائية، وفي مقدمتها اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك، وكادت قائمة المشتريات تقتصر على الخبز والمعكرونة والمحمصة والكسكسي وعينات من الخضار.

 

التونسيون الذين خرجوا إلى الشوارع عام 1984 احتجاجا على رفع أسعار الخبز، أبدو صبراً فاق صبر أيوب ولم ينساقوا إلى احتجاجات دعت إليها أطراف سياسية معارضة في البلاد، واضح أنها أرادت أن تستثمر معاناة محدودي الدخل لتأليب الشارع ضد حكومة الرئيس التونسي قيّس سعيد.

 

قبل أربعين عاماً تسبب رفع أسعار منتجات الحبوب بنسبة 110 في المئة بارتفاع ​​سعر الخبز من 80 إلى 170 مليما. بعد أن رضخت الحكومة لضغوط صندوق النقد الدولي الذي طالبها بتطبيق خطة تقشف.

 

وشهدت تونس إثر ذلك احتجاجات عرفت بـ”ثورة الخبز” بدأها أهالي مدينة دوز، سرعان ما انتشرت إلى مناطق أخرى لتصل إلى العاصمة.

 

وقد تم حينها إعلان حالة الطوارئ في البلاد، رافقتها حملة اعتقالات في صفوف من أسموهم بـ”المخرّبين والمجرمين”، انتهت بعد إعلان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إعادة النظر في الميزانية الجديدة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية المنهارة وعدم تحميل المواطن أعباء هذا الانهيار.

اقرأ أيضاً:

 

اسأل أي سياسي عن الحل لمشكلة التضخم ستسمع جواباً واحداً لا يتغير: رفع سعر الاقتراض، أي رفع نسبة الفائدة على الدين.

 

والغاية من وراء ذلك إجبار المواطنين على التقشف. وهو ما عملت به تونس خلال العام الماضي، فلجأت إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 75 نقطة أساس في شهر مايو. و25 نقطة أساس خلال أكتوبر، ومع بداية العام الحالي أضافت إلى سعر الفائدة 75 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة إلى 8 في المئة. مقتفية بذلك قرارات الدول الكبرى التي عملت على رفع سعر الفائدة لكبح التضخم.

 

لطالما استخدمت البنوك المركزية أسعار الفائدة للحفاظ على قيمة العملة المحلية للبلد ومنعها من الانهيار وكبح التضخم في الأسعار، وإن كان هذا الحل ينجح أحياناً، إلا أنه يفشل في معظم الحالات.

 

رفع أسعار الفائدة هو حل سياسي لأزمة اقتصادية. ووسيلة سيطرة على سعر العملة مقابل العملات الأخرى، وهو حل ينتهي غالباً إلى الفشل في دول الاقتصاديات الضعيفة.

 

الحلول الاقتصادية أعقد من ذلك بكثير، قد يحمي سعر الفائدة المرتفع العملة من الانهيار إلى حين ولكن، عندما يحدث الانهيار لن يكون للسقوط قاع.

 

وبحسب معهد الإحصاء التونسي الحكومي فقد صعدت نسبة التضخم في تونس خلال شهر ديسمبر الماضي إلى رقمين. مسجلة 10 في المئة، وهي النسبة الأعلى التي تسجل في البلاد منذ ثورة الخبز. كما ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 15 في المئة تقريباً.

 

التقشف لن يخرج تونس من أزمتها الاقتصادية، وارتفاع نسبة الفائدة لن يحمي الدينار التونسي إلى ما لا نهاية. إنهما حلان مؤقتان لو طال استخدامهما سيؤديان في النهاية إلى الركود. وبالتالي يعمقان الحفرة التي وجد التونسيون أنفسهم فيها.

اقرأ أيضاً:

 

 

من حسن حظ تونس اليوم أن الشارع التونسي بمختلف طبقاته الاجتماعية يدرك أن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد ليست صناعة محلية صرفة.

 

هناك الجائحة وحرب روسية – أوكرانية وتغيرات بيئية، سبقتها عشر سنوات عجاف من الصراع السياسي، أثرت سلباً على مكانة تونس الاقتصادية.

 

وهي عوامل لا يمكن تجاوز آثارها إلا بتوافر مجموعة من الشروط أولها، الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي تطمح تونس إلى تحقيقه حالياً.

 

يمكن أن نعدد مع صندوق النقد الدولي وخبراء الاقتصاد والمال قائمة من الإجراءات التي يجب الأخذ بها للخروج من الأزمة وتلافي الانهيار.

 

تبدأ القائمة بتحصيل الضرائب وتنتهي بتخفيضات في دعم الطاقة والغذاء، وتشمل خفض الإنفاق وتجميد الأجور. ولكن كل ذلك سيكون عديم الجدوى إن لم يُرافق بتحسن ملموس وسريع في مناخ الاستثمار.

 

للخروج من أزمتها الحالية، ما تحتاجه تونس هو معدلات نمو لا تقل عن 5 في المئة سنوياً، وهذا لن يتحقق إلا بالعمل على تنشيط الاستثمار الداخلي والخارجي.

 

شد الأحزمة، سواء من قبل الحكومة أو من قبل الأفراد، إجراء وقائي بانتظار عودة المستثمرين إلى البلاد. وهناك بعض الخبثاء الذين أشاروا إلى تغير عادات المستهلك التونسي. فالأزمة ساعدت على التخلص من نزعة الإسراف والتبذير.

اقرأ أيضاً:

 

 

لا شك أن هناك الكثير مما يجب عمله لتحسين مناخ الأعمال الذي شهد تراجعاً خلال السنوات الأخيرة. من بين ذلك إصدار قانون استثمار جديد يلغي أو يعدل قانون عام 2016.

 

ولكن ما تحتاجه تونس أكثر هو استقرار سياسي من دونه لا يمكن خلق مناخ جاذب للاستثمارات. فرأس المال كما يقال جبان، وأكثر ما يخيف المستثمرين الفوضى السياسية وعدم اليقين.

 

هناك من يطالب ليلاً ونهاراً بضرورة وجود استراتيجية واضحة لدى الحكومة للخروج من الأزمة الاقتصادية.

 

مثل هذه الإستراتيجية موجود بالتأكيد ولكن، قبل أن تطرح للتطبيق يجب العمل على تهيئة التربة الصالحة لنموها.

 

تونس لا يعوزها الخبراء، ولا تعوزها الكفاءات. ما كانت تحتاجه هو قيادة حكيمة حازمة تعيد تطبيق القانون وتوقف الفوضى، وقد وجدتها.

 

علي قاسم – العرب

 

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى