أمريكااتجاهاتصحف عالميةمقالات

كيف تأكل جملاً يا بايدن؟

 

 

تدرّس القيادة العسكرية الأمريكية جنودها الملقبين بـ”الفقمات البحرية”، أن أفضل طريقة لأكل الجمل تكمن في حقائق بسيطة: عليك أولاً أن تطبخه! لكن وأنت تمضغ اللقمة الأولى، عليك أن تخطط للقمتك التالية ولكل ما ستتناوله من الجمل.

فهل فكرت الولايات المتحدة بحجم الجمل الذي تقبل عليه والمتمثل بضخامة وتعقيد قضايا الشرق الأوسط؟

ثمة مقاربات عديدة محتملة لوضع إقليمي بهذا التعقيد: المقاربة الأولى تفترض الرؤية المتكاملة لمشاكل الإقليم، وصب الجهود لحل الحلقة الرئيسية المسببة لعدم الاستقرار، وضبط وتبريد ساحات الصراع الأخرى، لتتقدم بسرعات متفاوتة على إيقاع الحلقة الرئيسية. مقاربة من هذا النوع تتطلب الكثير من الالتزام وحسن النية. لكن لطالما كررت أمريكا عدم رغبتها في التورط بمشاكل الإقليم!
المقاربة الثانية: التعامل في المنطقة بالمفرق! لتركز أمريكا على هذه الأزمة أو تلك، بشكل نفعي قصير النفس، ولتلتقط منها ما تريد من مكاسب، ثم تدير ظهرها، لتلقي بنفاياتها من خلفها في المنطقة بأسرها، وكأن شيئاً لم يكن! كان هذا حالها بعد اتفاقات السلام مع مصر والأردن، ثم بعد حرب العراق الأولى، ثم في عملية السلام ثم في جريمة احتلال العراق، ثم في سوريا، وما أدراك ما هو حجم التواطؤ في سوريا؟

المقاربة الثالثة: هي التطنيش، و”بطيخ يكسر بعضه”، أو ما يسمى بالدفع من الخلف، وإيجاد بلطجي دولي يدير الواقع على الأرض.

كلما حل ضيف جديد في البيت الأبيض، تباهى أنه سينفض يده من شرقنا الأوسطي ليذهب شرقاً! وسرعان ما تعلمه وعورة الطريق أهمية الشرق الأوسط، ليدرك أن لا طريق للمشرق من دون العبور الآمن بالشرق الأوسط. وكانت تلك تجربة بيل كلينتون، ثم جورج بوش الابن، ثم باراك أوباما، ثم دونالد ترامب، وكذلك في زمن جو بايدن، إلى أن كانت أم معارك فلاديمير بوتين في أوكرانيا.

اقرأ أيضاً:

بسبب أم معارك بوتين، اكتشفت الولايات المتحدة المخاطر التي سببتها عنجهيتها وإدارة ظهرها لحلفائها. وها هي تركض لترميم متاريسها في الأطلسي والهادئ.

رغم ذلك فقد انتقلت في الشرق الأوسط من منهج التطنيش إلى منهج التعامل بالمفرق، وكأنها تترك الشرق الأوسط لأوقات الفراغ. لنرى، بين حين وآخر، دبلوماسياً أميركياً يقفز نحو المنطقة، ليسد بعض البراكين الصغيرة، ثم يليه دبلوماسي آخر، فلا مقاربة متكاملة، بل ركض لإطفاء الحرائق التي أشعلها المنافسون بأبخس التكاليف.

في نهاية عام 2015، سألني باحثون أميركيون جديون، عن مغزى سبب اهتمام بوتين بسوريا والشرق الأوسط، ولكن بعد حرب أوكرانيا، يبدو أن بوتين هو الذي ذكرهم بالشيء الذي لطالما رفضوا تعلمه، ألا وهو الأهمية الجيو-استراتيجة للشرق الأوسط.

الآن، وبعد أن علقت روسيا في سنارة الحرب الأوكرانية، أصبحت الحلقة الرئيسية في الاستراتيجية الأمريكية هي هزيمة الطموح الروسي الكوني. ولخدمة هذا الهدف، تحاول أميركا في الشرق الأوسط ضمان إنجاز مهام مستحيلة.

إنها لا تريد أن تدخر إيران مخزونها النووي المخصب، ولكنها لا تريد في المقابل دفع إيران لتصبح حليفاً عضوياً لروسيا، وفي الوقت ذاته لا ترغب في أن يجرها نتنياهو إلى حرب إقليمية حتمية عبر توسيع دائرة الحرب ضد إيران. إنها معادلة مستحيلة. وفي سوريا، لا تريد الولايات المتحدة أن تقوم بأي جهدٍ عملي تجنباً للتورط، وتكتفي بترقيع الثقوب، ثم تتوقع الحصول على نتائج إيجابية. إنها استحالة ثانية. ليتضح أن أمريكا عموماً “تعرف ما لا تريد، لكنها لا تعرف ما تريد”.

اقرأ أيضاً:

يحتدم النقاش في واشنطن منذ شهرين حول مقاربة الشرق الأوسط. ومثل أسلافه، يتعلم بايدن بصعوبة، استحالة التغافل عن الإقليم. حتى لو اشتعلت أوروبا وغص مضيق تايوان بالبوارج. يظهر هذا بجلاء من مضمون زيارة رئيس الأركان الأمريكي ومن بعده وزير الدفاع للشرق الأوسط، لتبدو هذه الزيارات محاولة لتدارك مرحلة التطنيش.

لكن سرعان ما اكتشف هذان الرجلان حاجتهما لعصا موسى كي ينجحا في قلب الموقف لصالح الولايات المتحدة. فمرجل الشرق الأوسط يكاد ينفجر. من دون أن تتوافر لأمريكا أي روافع استراتيجية يعتد بها لدرء الانفجار.

فبعد أن أدارت الولايات المتحدة ظهرها للتحولات التاريخية الكبيرة في الخليج، وخربت طوعاً تحالفاتها في الخليج والشرق الأوسط. وفشلت في اجتراح مسار منصف للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المتفجر. واستمرت تماطل طويلاً في اليمن وسوريا مع بوصلة الابتزاز الإيراني والروسي، تكون قد أوصلت سياستها إلى طريق مسدود.

لكي تكون وسيط قوة لا بد من أن تكون ذا نفوذ. ولقد فقدت الولايات المتحدة الكثير من نفوذها. بعد أن خانت ذاتها بتذبذبها وتطنيشها.
لن يكون إصلاح أمرها سهلاً أو فورياً. إذ لا يتعلق الأمر باستعراض عام للقوة، بل باستعادة الصدقية وإثبات الموقف.

اقرأ أيضاً:

وفي الملموس! تكمن الحلقة الرئيسية لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط في كبح جماح إيران وطموحاتها في المنطقة، حيث يشكل “الحرس الثوري” مرجلاً لتدمير الدولة الوطنية.  ومحرقاً لتسعير الاستقطاب الإقليمي والطائفي والإرهاب. ليجعل من اختراق روسيا والصين للمنطقة تحصيل حاصل وحقيقة واقعة.

ثم ماذا عن الدوران الأبدي في سيرة الملف النووي. فإذا كان هدف الاتفاق النووي تغيير موازين القوى لصالح كتلة معتدلة نسبياً، فلعل الرئيس جو بايدن يدرك الآن أن المتشددين قد ابتلعوا كتلة المعتدلين وشربوا ماءها. لقد انتهى الاعتدال في المؤسسة الحاكمة بعد ابراهيم رئيسي. لكن إذا رأى الشعب الإيراني أن “الحرس الثوري” يمضي من هزيمةٍ لأخرى ويهدد مستقبل البلاد، فسينكشف الغطاء الداخلي الذي يتستر به الباسدران.

فهل تحمل زيارات العسكريين الأمريكين بواكير تغيير لمنهج التعاطي بالمفرق أو بالتطنيش تجاه الإقليم؟ نقترح أنه بدلاً من التعاطي مع قضايا المنطقة بالشوكة والسكين، أن يصغوا لقولنا المأثور: “حين نرد المنسف، إضرب بأصابعك الخمس”. فهل تعلّم هؤلاء أن يضربوا بالخمس، كي يستعيدوا التحالفات التي تعثر بعضها وفقد بعضها الآخر.

بعد تجارب مريرة يدرك العرب أن الصدقية تكون بالممارسة على الأرض. واستمرار ضعف المقاربة الأمريكية لقضايا المنطقة، ستتيح لروسيا الاستمرار في زرع الألغام. وستكون قادرة بتكاليف زهيدة على إلحاق أكبر الضرر بالسياسات الأميركية.

لا يمهل هذا العصر العقول الكسولة والبطرانة، وفي حين تتعثر الطبخة الشرق أوسطية في واشنطن، تقرع طبول الحرب في أرجاء المنطقة، لتبقى مهمة القادة العسكريين الأميركيين للإقليم في كف عفريت. ذلك أنه، في نهاية الأمر، القرار للمستوى السياسي وليس العسكري. وهل يتعلم بايدن أكل الجمل في الشرق الأوسط على طريقة “الفقمات البحرية”؟
سمير التقي – النهار العربي
المصدر
النهار العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى