اتجاهاتمقالات

لا إنسانية العقوبات

 

كشفت كارثة الزلازل في تركيا وسوريا عن الزيف الواضح في ادعاء أن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها قوى غربية على بعض الدول هي “لأغراض إنسانية”.

 

صحيح أن ما ضاعف من أضرار الزلزال أنه وقع في مناطق تشهد اضطرابات سياسية منذ سنوات، فجنوب شرقي تركيا أغلب سكانه من الأكراد الذين لا تكن السلطات التركية أي ودّ لهم، حتى لو كانوا مواطنين أتراكاً في النهاية.

 

كذلك في أغلب المناطق السورية الأكثر تضرراً سكانها إما من الأكراد أو تسيطر عليها جماعات مسلحة منخرطة في الحرب الأهلية التي دمّرت سوريا على مدى نحو عقد من الزمن.

 

ولكن الأكثر تعقيداً لوصول الإغاثة العاجلة إلى الضحايا في مناطق الزلازل كانت العقوبات الأمريكية والغربية على سوريا.

 

صحيح أن بعض الدول لم تعبأ بالسياسة وقدّمت الإنسانية على أي شيء مثل الإمارات ومصر والجزائر والصين والعراق، لكن العقوبات عطّلت وصول المساعدات في الوقت المناسب، وربما تسببت في إزهاق أرواح كان يمكن إنقاذها لو استجاب العالم للكارثة على أساس إنساني وليس سياسياً.

 

لعل كارثة الزلازل هذه غير المسبوقة، على الرغم من أضرارها الهائلة من ضحايا بعشرات الآلاف، وجرحى ومشردين ودمار واسع، تكون فرصة لمراجعة العالم سلاح العقوبات الاقتصادية الذي توسّعت الولايات المتحدة والغرب خصوصاً، والأمم المتحدة، والعالم عموماً، في استخدامه خلال العقود الأخيرة.

 

 

اقرأ أيضاً:

 

فلا يمكن أن تكون العقوبات الاقتصادية على الدول “إنسانية” بأي شكل من الأشكال؛ بل إنها ربما تكون أكثر فتكاً بالشعوب من الحروب.

تستهدف العقوبات، حسب دعوى من يفرضونها، عقاب أنظمة وحكومات على سياسات وممارسات يرونها عدائية، لكن النتيجة الواقعية أن العقوبات تؤذي الشعوب والناس العاديين الأبرياء، خاصة كبار السن والأطفال والمرضى والفئات الأكثر عرضة للخطر.

 

ولم يحدث أن أدّت العقوبات ـ عبر تجويعها للشعوب ـ إلى تغيير الحكومات كما استهدف من فرضوها؛ بل على العكس، كان من المنطقي والطبيعي أن توجّه الشعوب التي تتعرض للعقوبات غضبها ضد من يفرضونها وليس على حكوماتهم.

 

شهدنا منذ نهاية القرن الماضي كيف تؤدي العقوبات الاقتصادية إلى إزهاق أرواح الأبرياء في عمليات أقرب إلى “العقاب الجماعي”، ولم يقتنع أحد إطلاقاً بأن هدفها هو “تحرير الشعوب من حكامها الظالمين”.

 

فعلى مدى سنوات طويلة، قتلت العقوبات على العراق مئات الآلاف من الأبرياء وأصابت مثلهم بأمراض مزمنة. وتكررت المأساة في مناطق أخرى من كوريا الشمالية إلى ليبيا، ومن سوريا إلى السودان.

 

مثال ربما على بشاعة العقوبات هو الكارثة الإنسانية التي يشهدها إقليم ناغورنو  كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان. إذ تفرض سلطات أذربيجان حصاراً على الإقليم يمنع دخول أي مساعدات للسكان، ولا حتى من الطريق الذي يربطه بأرمينيا، حيث أغلب سكان الإقليم من الأرمن.

 

وعلى الرغم من مناشدات المنظمات الإنسانية للسلطات الأذربيجانية. ما زال الحصار مستمراً ويهدد بمأساة إنسانية في الإقليم.

اقرأ أيضاً:

 

 

حتى العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي يفرضها الغرب على روسيا، ويواصل تشديدها بسبب الحرب في أوكرانيا. لم تسفر عما كان يتوقعه الأمريكيون والأوروبيون من إطاحة الشعب الروسي حكامه. وإنما النتيجة هي زيادة معاناة الروس العاديين نتيجة الحصار الاقتصادي الغربي عليهم من دون أن يؤثر ذلك في مسار الحرب. اللهم إلا بإضرار غير المشاركين فيها من مدنيين أبرياء في روسيا.

 

ومع توجّه تشديد العقوبات على الصين. ستتوسع دائرة العقاب الجماعي لمئات الملايين من المواطنين الأبرياء حول العالم بعقوبات شعارها المعلن استهداف الحكومات. وتأثيرها الحقيقي هو قتل الأبرياء جوعاً ومرضاً.

 

وأبعد ما يكون عن أي منطق أو عقل، أن يوصف سلاح العقاب الجماعي هذا بالإنسانية. بل إنه نقيض لكل ما هو إنساني في أبسط صورة.

 

لذلك أتصوّر أن تتسع دائرة عدم الالتزام بالعقوبات من جانب الكثير من دول العالم التي تقدم الإنسانية على السياسة. ولا تقبل بالعقاب الجماعي للشعوب.

 

ومن شأن ذلك أن يفقد هذا السلاح الفتاك الذي توسّعت أمريكا والغرب في استخدامه. أي تأثير حقيقي له، خاصة إذا ما توسّع نطاق العقوبات ليشمل الصين وغيرها في المستقبل القريب. ومع تكرار تجاهله وانتهاكه، لن يتمكن مَن يفرضونه من الإضرار بالشعوب وإزهاق الأرواح البريئة.

 

 

 

أحمد مصطفى – الخليج

المصدر
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى