اتجاهاتمقالات

مغارة علي بابا الجديدة في تونس

 

 

المكان: مقهى تونسي في حي شعبي عريق قرب السوق.

الزمان: بُعيد صلاة الفجر.. وقُبيل أن ينادي المنادي “حي على العمل”.

سحابة من دخان السجائر والأراجيل، ضجيج يعلو وينخفض على إيقاع مباراة فوتبول تبثها قناة رياضية، وتتخلله أصوات السعال من زبائن دائمين تقريباً، ويعرف أغلبهم بعضهم بعضاً حتى دون تبادل تحية الصباح.

 

شخصيات المكان من فئات اجتماعية متقاربة، منهم من جاء من الجامع بعد الصلاة، منهم من يتناول قهوته قبل الانطلاق إلى العمل في السوق الشعبية.. وغالبية من العاطلين عن العمل أو “المُعطلين عن العمل” كما يحلو لهم تقديم أنفسهم متهمين في ذلك الحكومة بعدم تشغيلهم.

 

موضوع حديث المقهى هذا الصباح، جديد ومتجدد، وهو اكتشاف منجم ضخم للذهب وآخر للفضة في تونس.

 

بدأ كل واحد يدلي بدلوه بمنتهى الحماسة والتشنج إلى حد الصراخ والضرب بالأيادي على الطاولات، والاختلاف على المنطقة التي وقع فيها هذا الاكتشاف العظيم.

 

صلاح نادل المقهى قال إن ذلك تم في قريته الفقيرة النائية، ولسوف يحرم أبناء المنطقة من هذه النعمة كما جرت العادة.

 

بشير عامل البناء اختلف مع صلاح، وادعى أن الاكتشاف صار بالقرب من قريته المحاذية وأنه على علم بذلك منذ ما قبل الثورة. لكن السلطات تكتمت عن الأمر وأخفته كي ينفرد به مستفيدون من أقرباء الرئيس الراحل.

 

الحاج زروق دحض ادعاءه وقال إن الاكتشاف صار منذ أشهر في عهد الحكومة الحالية التي سارع المنتفعون منها إلى نفي وتكذيب الخبر كي تنتفع وحدها بالغنيمة، لكن الله سيحاسبهم جميعاً.

 

نورالدين، المنهمك في تمعن أوراق سباق الخيل، قطع تركيزه، وسأل ما سعر أونصة الذهب هذه الأيام؟ أجابه علي السمكري: نحن نتحدث عن آلاف الأطنان من سبائك الذهب والفضة وأنت تسأل عن سعر الأونصة.. يا لك من مقامر متواضع الطموح.

 

اقرأ أيضاً:

 

رضا، النقابي المتحمس، والعاطل عن العمل، نبه إلى العذابات التي يعاني منها المساكين من العاملين في الحفر والتنقيب في أكثر من منجم للذهب في بلادنا الغنية بثرواتها المنهوبة.

 

فتحي السمكري العاطل عن العمل قال إن الحل الوحيد هو أن يزحف الشعب نحو تلك المناجم ويفتك حقه بيده. ثم أخرج آلة حاسبة من جيبه وقال هيا نحسب: كم عدد أطنان الذهب وكم عدد الرجال البالغين في بلادنا كي ينال كل حصته.

 

رد عليه عامل البناء: سأتأكد لك من الأرقام الصحيحة على الفيسبوك. وهنا تدخل سي المنصف مناصر قضايا المرأة رافعاً رأسه عن الصحيفة: ولماذا تحسب الذكور دون إناث؟ أليس من حق المرأة التونسية أن تطالب بحقها في ثروة بلادها والتساوي مع الرجال؟ ثم أدار برأسه نحو صورة الزعيم بورقيبة المثبتة في صدر المقهى وخاطبها قائلاً: الله يرحمك يا سي الحبيب.

 

جرى كل ذلك على خلفية ما انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي من صور ادعى ناشروها أنها لمنجم ضخم للذهب والفضة في تونس. وحصدت الآلاف من المشاركات والتعليقات. في حين تبين عبر محركات البحث وصحافيي خدمة تقصي الأخبار، أن لا علاقة لهذه الصور بتونس، وإنما لأماكن متفرقة من العالم.

 

السؤال الذي يطرح نفسه: هل ترويج مثل هذه الادعاءات حالة بريئة لا تتجاوز مجرد التسلية والاستمتاع ببارقة أمل، ولو كان كاذباً، من شأنه أن يرفع من معنويات التونسيين المنهارة بانهيار اقتصاد بلادهم أم أن الأمر أعقد وأخطر من ذلك بكثير؟

 

الجميع يعلم أن سوق الإشاعات والمزايدات تنشط أثناء الأزمات، ويقف خلفها مروجون ومضاربون بقصد الاستفادة على جميع أنواعها.

 

وفي هذا السياق، وحين دب واستبد اليأس والقنوط بالكثير من التونسيين، صاروا على قناعة شبه تامة بأن أزماتهم المالية والاجتماعية لن تحل إلا بمعجزة.. والمعجزة ليست أقل من اكتشاف مناجم الذهب والفضة.

 

 

الإمارات بين مجزرة جنين وعملية القدس

 

المعجزة تلك، سبق أن بشرت بها عرافة لبنانية مطلع العام، تداولها التونسيون بتفاؤل كبير. ومفادها أن “مفاجأة سارة” تنتظر أبناء هذا “الشعب الزهقان”. تتمثل في اكتشاف مناجم خرافية من الذهب والفضة على غرار مغارة علي بابا.

 

وبالفعل، وجد “الأربعون حرامي” ولم توجد المغارة

 

أربعون حرامي أو ما يزيد، بالمتاجرين بحقوق الكادحين. وعقيدة المؤمنين وطموح الحالمين وأوضاع البائسين وهفوات الوطنيين الصادقين.

 

 

اقرأ أيضاً:

 

 

من يقف خلف هذه الحالة الاستمنائية لدى البسطاء والمخدوعين من التونسيين؟

 

أليسوا أولئك الذين خافوا مصالحهم وأموالهم أو أولئك الذين فقدوها فعلاً بفضل بعض الإصلاحات. فأصبحوا مسعورين ينوون الزج بالبلاد في “حمى الذهب” ودفع أبنائها للاقتتال بقصد تخريب البلاد.

 

ليس أسهل من تأليب الشعوب الفقيرة على حكوماتها عبر اللعب على احتياجاتها والاستثمار في فقرها بالمزيد من التشكيك ومن ثم بث الفوضى والاقتتال.

 

الطريقة المثالية في ذلك هي بث الأوهام وتسويقها على شكل حقائق علمية أو معتقدات دينية كما فعل أحدهم في المقهى الشعبي. وأخرج من جيبه جهاز الموبايل ليبحث في إحدى تطبيقاته على الإنترنت عن “خارطة الذهب في تونس”.

 

ولكي تكتمل هذه المسرحية الهزلية، تجمع زبائن المقهى حوله ليكتشفوا مصادر الثروات المعدنية المدفونة.

 

وكانت المفاجأة أن تبين أن أرض المقهى ترقد تحتها الأطنان من الذهب، بدأ الاقتتال بين زبائن المقهى من العمال والبطالين.

 

لعل التونسيين قد تناسوا أو كادوا أن يتناسوا بأن:” افتح يا سمسم”. الحقيقية لفتح مغارة الثروة هي العمل ثم العمل ثم عدم الانصياع للادعاءات المغرضة التي تنفثها الألسن السامة.

 

 

 

حكيم مرزوقي – العرب

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى