اتجاهاتصحف عالميةمقالات

قطار التغيير انطلق في تونس

الأمثلة المأثورة نَوعَان، نوْع يرسخ بالذاكرة ولا يفارقها وآخر يكون عصيّا على الترديد ويستحيل أحجية يرددها هذا وذاك بمذاق متباعد الحيلة والمغزى في أغلب الأحيان.

 

أصْل الكلام الموزون الذي ينعش الذاكرة ويحرّرها من الخمول. “الربيع العربي” بقيَ عالقاً بأحداثه في مخيلة كل عربي، العودة إلى الوراء أحياناً أكثر من ضرورية، من منّا لا يستعيد ما ردّده الرؤساء العرب إبان سقوطهم المدوّي في تونس واليمن وليبيا ومصر ما بعد 2011.

 

حديثُ اليوم يفرض الإنصات دون سواه، إنصات لوَقْع الكلمة التي يتجاوز صداها أحياناً الصورة، الآية هنا ربما تكاد تكون مقلوبة في عصر الوسائط الرقمية والتطور التكنولوجي.

 

فيسبوك زعيم الكل، تويتر بلا منازع ينشّط الذاكرة، واتساب سهّل رسائل التخاطب والود بين الناس، تيك توك عنوان الجودة الراقية وعراقة الصورة ومبلغ المنتهى فيها، ويوتيوب رائد الإنصات في استعادة ما فاتنا من أحداث.

 

صوت يتردّد هنا يعيد إلى الذاكرة أشخاصاً فارقناهم، لكنهم باقون معنا بكلماتهم الرنانة وأصواتهم المؤثرة، نقف عند البعض من هؤلاء.

 

زين العابدين بن علي قال “فهمتكم.. أي نعم فهمتكم”، معمر القذافي ردّد قولته الشهيرة “دقت ساعة الزحف.. دقت ساعة العمل، ثورة، ثورة، ثورة إلى الأمام”، والزعيم اليمني علي عبدالله صالح بقيت كلمته التاريخية عالقة بالأذهان “فاتكم القطار.. فاتكم القطار”.

 

نستعيد اليوم كلمة علي عبدالله صالح بشيء من التحفّظ ودون إسقاطات، العنوان واضح ولا لُبس فيه، القطار لا ينتظر من يأتي متأخراً، تبدأ الرحلة وتنتهي طالما كُنت جاهزاً للركوب، وإن لم تكن مستعداً، فما عليك سوى الانتظار.

 

في مثالنا التونسي بالأساس قطار التغيير قد انطلق فعلاً، لا تراجع إلى الوراء، صحوة منتظرة من قيادة متحفزة فعلاً لركوب قطار التغيير هذا.

 

اقرأ أيضاً:

 

لا عزاء لمن جاء متأخراً إلى محطة الانطلاق، الرحلة ممتعة، المعارضون لا يملكون حججاً للدفاع عن أنفسهم. اتحاد الشغل مرهق، جرّب المجرّب ولم ينفع، حاور أو ادعى الحوار، استكان، عاد من جديد لطلب الحوار على قواعد غير سليمة، لكنه جُوبه بالصد والرفض واللامبالاة.

 

اللعبة باتت مكشوفة، الأحزاب بمختلف مسمّياتها، اختارت التموقع في جبهة واحدة بدعوى الإنقاذ، حتى أولئك المختلفون وحّدوا مواقفهم لمصلحة جمعتهم وغاية براغماتية قارَبَتْ بينهم.

 

فها هم في أناتهم ينعمون، لعبة تقليم الأظافر أضحت ممكنة الآن، لا أحد يغالي في الاستقواء بهذه الجهة أو تلك دفاعاً عن مصالحه التي يأبى أن تُمسّ، في المقابل سيناريو التنظيف واجب، فنظافة المكان تمنح صاحبها راحة نفسية يتجدّد معها البقاء.

 

بالصور: تفاصيل جديدة يكشفها الإعلام العبري حول عملية أريحا

 

حان وقت تسمية الأشياء بمسمّياتها، فرض الطاعة واجب. قولوا ما شئتم، لا تراجع عن مسار استعادة هيبة الدولة، هكذا يردّد لسان حال الرئيس قيس سعيّد وهو يرى أن الأمور تسير بالاتجاه الصحيح.

 

تونس دولة عانت الأمرّين جراء الاستهتار السياسي والفساد بأنواعه اللذين عمقا محنتها بين الأمم. من يغالي في ضرب هذا المسار عليه أن يقدّم البديل. البديل غائب وسيكون غائباً طالما لم يغادر المعارضون للرئيس سعيّد مربّع التخوين والتعلّل بدكتاتورية صورية لا وجود لها.

 

العودة إلى الدكتاتورية لم تعد ممكنة، قالها قيس سعيد ذات يوم، تونس دولة تتسع للجميع. التعلّل بملف حقوق الإنسان والعنصرية حجة الضعيف. الاستقواء بالأجنبي أيضاً حجة من لا طاقة له على التحمّل وتضليل الرأي العام في الداخل والخارج.

 

مسافة كبيرة يتوجب قطعها للوصول إلى الحقائق، حقائق الدول التي تنشأ من العدم برجالاتها ونسائها وأطفالها وشيوخها. الجميع صف واحد من أجل البناء.

 

اقرأ أيضاً:

 

دول عديدة جرّبت هذا النموذج ونجحت في النهوض، دعك من الأمثلة “المعجزة” عبر التاريخ سواء في أوروبا (ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية) أو آسيا (سنغافورة، تايوان وسواهما).

 

أفريقيا اليوم مثال للدراسة وشاهد على حجم التطور الذي بلغ منتهاه وقوة الإرادة التي تتجسد في الواقع. دول راهنت على إمكانياتها ومواردها الذاتية للنهوض وحققت الإقلاع، كوت ديفوار، تنزانيا، غانا، إثيوبيا، رواندا، وغيرها. باتت اليوم وجهات استثمارية عالمية للعديد من الدول.

 

أكثر من الاستثمار الصراع الذي يطبع نفوذ القوى العالمية للتموقع بهذه البلدان. في مقابل ذلك العديد من الدول التي استفادت من تجارب هذه البلدان للنهوض. المغرب عنوانٌ كبير في هذا الاتجاه، راهن عليه ووجد مبتغاه.

 

اليوم تونس بعيدة كل البعد عن هذه المعادلة، مخاض عسير وأكثر عسراً من ذي قبل، بين منطق الدولة وأعدائها. بين من يريد التأسيس والاستدامة ومن يقف حائلاً أمامه.

 

بين من يرتضي حرق الأخضر واليابس في سبيل مآربه ومصالحه الضيّقة، ومن يروم التحفيز والتنشيط والمبادرة بالنهوض، بين من يمتلك الجرأة ليقول “لا” من أجل الوطن، وبين من يشتهي تضليل الجميع خدمة لأجنداته الذاتية، بين منطق اللوبيات والسماسرة، وبين إرادة الدولة ومؤسساتها التي توجّب تطهيرها من حيتان كبيرة لا همّ لها سوى الغنيمة. خطان متوازيان لا يلتقيان بين منطق الدولة واللادولة.

 

مثلما حكم على تونس عبر سنوات أو لنقل عبر عقود بأن تكون أسيرة أفعال ساستها المرهقين. الذين ركبوا قطار المغالاة والانتهازية، آن الأوان لهؤلاء أن يترجلوا ويتركوا قطار التغيير يمضي.

 

 

 

الحبيب مباركي – العرب

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى