اتجاهاتصحف عالميةمقالات

2003 – 2023: عالم محمد بن زايد

لا يمكن الاستهانة باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة التي وقعتها الإمارات وتركيا قبل يومين. صحيح أن الاتفاقية محطة كبرى في تاريخ العلاقة بين البلدين، لكنها في وجهها الحقيقي قلب لصفحة من المواجهة السياسية استمرت لأكثر من عقد من الزمان. لا أحد يكشف سرا حين يتحدث عن المدى الذي بلغته العداوة بين البلدين.

على الرغم من الصمت السياسي والدبلوماسي الإماراتي، في مواجهة المجاهرة التركية السياسية والإعلامية والحزبية من خلال حركة الإخوان المسلمين ذراع أنقرة في المنطقة، فإن الصراع كان معلما أساسيا محسوسا في المنطقة منذ انطلاقة الربيع العربي ودخول تركيا على خط التغيير في المنطقة.

 

 

تبادل زعيما البلدين تصريحات الترحيب بالاتفاقية. رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أشاد بالاتفاقية بطريقته الهادئة باعتبارها مكسبا للشعبين. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يكن ليشذ عن طريقته المندفعة دائما في التعبير حيث الإشادة مرفقة بوصف الشيخ محمد بن زايد بالصديق.

 

موقف أردوغان يعكس تغيرا شاملا في مزاجه ونظرته إلى الأمور. الرئيس التركي هو من بادر بالعداء، وها هو يريد الصداقة. لا شك أن الإماراتيين والأتراك يريدون لهذه الصداقة أن تترسخ وتدوم. لم يتعامل الإماراتيون مع تركيا ورئيسها على أساس انتصار وجهة نظرهم التي حافظوا عليها منذ نشوب الأزمات عام 2011، وإنما تعاملوا معهما باحترام.

 

سيكون من السهل القول إن الإمارات تغيرت وصارت تعتمد سياسة “تصفير المشاكل”. يمكن الرد على هذا بسهولة من خلال سؤال بسيط: من تغير؟ محمد بن زايد أم أردوغان؟ لا شك أن الجواب أكثر من واضح. لم يسأل الإماراتيون لماذا تغير أردوغان.

 

يعرفون الأسباب، ولم يتصرفوا على أساسها. المهم أنه تغير وأن من المهم استثمار التغيير في الذهاب بالعلاقة بين البلدين إلى أفق مختلف. مع التغيير في العقلية التركية، تتراجع فرص الإخوان في إعادة تقديم أنفسهم كمخلصين للمنطقة وإسلاميين ديمقراطيين.

 

عام 2003 كان سنة استثنائية في تاريخ المنطقة. ثمة إجماع على أن الغزو الأميركي للعراق غيّر المنطقة، وكان المرحلة التي أوصلتنا إلى انفلات الإرهاب وتنمر إيران والربيع العربي والحروب الأهلية العربية في أكثر من بلد. هناك الكثير مما يقال عن حجم التغيير في المنطقة.

 

اقرأ أيضاً:

 

لكن صورة المنطقة كانت ستكون مختلفة بشكل أكبر لولا وجود زعامة من طراز محمد بن زايد. عام 2003 كان السنة التي قرر فيها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تعيين الشيخ محمد بن زايد نائبا لولي العهد في أبوظبي، ليصبح الشيخ محمد وليا للعهد بعد وفاة الشيخ زايد، ويكون الشخصية السياسية المحورية في المنطقة على مدار 20 عاما، هي الفترة الأخطر في تاريخ المنطقة المعاصر.

 

بوخالد، أو المعزب، كما يحب الإماراتيون أن يكنوه، أظهر فهما استباقيا لما يمكن أن تذهب إليه المنطقة. الخلل الإستراتيجي الذي نشأ بسقوط النظام العراقي كان الفرصة التي انتظرها الإرهاب وإيران وتيارات الإسلام السياسي.

 

كل واحد من هذه العوامل كان كافيا لتخريب المنطقة. الآن هي موجودة معًا ولا يمكن تجاهلها، خصوصا مع قصور الفهم والفعل الأميركي فيما بعد حرب 2003 واحتلال العراق.

 

ترامب: أستطيع حل نزاع أوكرانيا خلال 24 ساعة .. إذا صرت رئيساً

 

زمنيا، تحرك الإرهاب بسرعة لكسب المبادرة، وتبعته إيران بتحرك ينتظر فرص الإخفاقات الأمريكية في العراق والعمل على استغلالها، في حين تريث الإسلام السياسي ممثلا بالإخوان لسنوات حتى تحين الفرصة الملائمة. وأمام كل هذه التهديدات، كان للشيخ محمد بن زايد وقفة. الإمارات جزء أصيل من الحرب على الإرهاب، وعنصر توازن واستقرار في مواجهة التمدد الإيراني (كما شهدنا في البحرين واليمن)، وموقف سياسي لا مساومة فيه في مواجهة الإسلام السياسي.

 

عمل محمد بن زايد أولا على تأمين الوضع الداخلي بأن واجه الإسلام السياسي الذي كان قد تسلل إلى الإمارات على مدى سنوات، خصوصا في قطاع التعليم. ومع هذا التأمين السياسي/الأمني، شهدت الإمارات حركة حضور ثقافي وتنموي. ولم تزد أزمة عام 2008 المالية العلاقة بين أبوظبي ودبي إلا متانة.

 

الشيخ محمد تحرك إقليميا مدفوعا بإدراك أن الإمارات مستهدفة، لكن الهدف الأكبر هو السعودية. عناصر عدم الاستقرار الثلاثة لديها خططها للسعودية، وكان ضروريا تغيير نمط العلاقة مع الرياض.

 

اقرأ أيضاً:

 

تم احتواء الأزمات الخاصة بترسيم الحدود، وعالج الشيخ محمد العلاقة بصبر إستراتيجي لافت للنظر. وحين تردى الوضع الإقليمي بسقوط حكم الرئيس المصري محمد حسني مبارك ووصول الإخوان إلى الحكم هناك بدعم تركي وقطري، صارت السعودية مستعدة للتدخل.

 

هذا الصبر الإستراتيجي في العلاقة مع السعودية، أثمر تحالفا أعمق مع وصول العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى العرش وتعيين الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد.

 

هل كان التدخل الإماراتي – السعودي في مصر إيجابيا أم سلبيا في تحديد مصير البلد؟ لا تملك مصر المقومات الاقتصادية التي تقارن بتركيا. لكن انظروا أين أوصل أردوغان بلده. زلزال الرئيس التركي الاقتصادي وانهيار الليرة سبقا الزلزال الطبيعي.

 

هل كان حكم المرشد في مصر سيأتي بشيء أفضل مما فعله أردوغان؟ هذا سؤال ينبغي للمصريين والأتراك أن يردوا عليه.

 

العمل الإماراتي – السعودي المشترك واجه ارتجالات السياسة القطرية. مقاطعة الرباعي السعودي – الإماراتي – البحريني – المصري لقطر كان فعلا لم تعتد عليه المنطقة التي كانت تتحاشى إظهار خلافاتها أو الوصول بها إلى حدّ المواجهة المفتوحة.

 

في قمة العلا، تستطيع أن تجادل بأن يد الرباعي كانت ممدودة لقطر مما يوحي بأن الدوحة خرجت منتصرة من تلك المواجهة. لكن بعد مرور سنتين على تلك المصالحة، هل غيرت الإمارات أو السعودية مواقفهما، أم أن قطر هي التي تتحرك لتصلح ما فسد من علاقاتها مع الآخرين؟ هدأت الماكنة الإعلامية التحريضية القطرية، ولم نعد نسمع كثيرا عن الإخوان في الدوحة.

 

الرعاية القطرية لمشروع الإخوان اليوم أشبه برعاية متحف لا تريد له أن يُغلق، أكثر منها دعما مفتوحا لحركة سياسية كانت قبل عقد من الزمان على وشك الاستيلاء على الحكم في بلدان عربية كثيرة.

 

اقرأ أيضاً:

 

 

لو لم يكن التحالف الإستراتيجي الإماراتي – السعودي لكان باب المندب الآن تحت سيطرة إيران.

 

الحوثي لم يهزم تماما في اليمن، لكنه اليوم مشروع إيراني متعثر بسبب الفعل المشترك بين الرياض وأبوظبي. اليمنيون دفعوا الثمن غاليا بعد سيطرة الحوثي على السلطة في صنعاء واندلاع الحرب بقيادة التحالف ضد الحوثيين. ولكن، هل يختلف الأمر كثيرا عن الوضع في لبنان بعد أن ترك المشروع الإيراني هناك ممثلا بحزب الله ليرسخ أقدامه؟ مرة أخرى، نترك اليمنيين واللبنانيين للرد.

 

لم يغلق الباب الإماراتي في وجه العراق رغم النفوذ الإيراني، وكان السؤال الحاضر في الذهن: هل نترك سوريا للإيرانيين والروس، أو للإرهاب والإخوان وتركيا؟ مرة أخرى الزمن كان أفضل رد.

 

يقدم الاقتصاديون تحالف أوبك+ على أنه ثمرة التنسيق السعودي – الروسي. تصادم السعوديون والروس لفترة في قضايا الإنتاج. لكنهم اتفقوا لاحقا وبرز تحالف أوبك+ كما نراه اليوم. العامل الثالث، غير المرئي بوضوح، كان هو العامل الإماراتي. الإمارات، ذات الإنتاج النفطي المتصاعد، كانت العنصر الثالث في تأسيس وإدامة الاتفاق والتحالف، بل وصموده بعد حرب أوكرانيا.

 

أصحاب المشاريع المنافسة في المنطقة يعرفون أن إصرار الشيخ محمد بن زايد على سياساته كان سببَ تراجعِ حظوظ نجاحهم. من هذا يمكن رصد حجم الاستهداف الشخصي له من على المنابر الإعلامية، ولسنوات طويلة. صفه بالعناد أو الاقتناع بالمبادئ أو وضوح الرؤية، لكن الآخرين يتغيرون وتجري الأمور في منطقتنا لصالح رؤيته.

 

عالمنا، بعد غزو العراق والربيع العربي والأزمات الاقتصادية والتنموية والمالية، كان سيكون مختلفا لولا مواقف وأفعال محمد بن زايد. عشرون عاما مهمة أوصلتنا إلى “صديقي محمد بن زايد” من على لسان أردوغان. إنه عالم محمد بن زايد.

 

 

 

العرب – هيثم الزبيدي

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى