اتجاهاتصحف عالميةمصرمقالات

انضباط أم عسكرة في مصر

مع أن كلمة عسكرة يبغضها الكثير من المصريين، العسكريين والمدنيين، إلا أنها تستخدم دائما لوصف التدخل الكبير لضباط الجيش في بعض المؤسسات المدنية حتى ولو كان ذلك بغرض الانضباط والإضافة الحقيقية، ويزداد استخدامها كنوع من الاستنكار في وجدان بعض القوى السياسية للجور على خصوصية الحياة المدنية.

أدى حضور الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عملية اختيار موظفين جدد في وزارة النقل والمواصلات مؤخرا إلى استعادة كلمة “العسكرة” ووضعها في الواجهة السياسية، حيث اعتبر البعض وجوده وإجراء الاختبارات في أحد المقرات العسكرية دعما لتوجه لم يعدقاصرا على المؤسسات التابعة للجيش مباشرة، حيث درج الرئيس على المشاركة في اختبارات القبول في غالبية الكليات العسكرية والشرطية.

بدت الخطوة تطورا في حجم انشغالات الرئيس المصري إلى الدرجة التي قادته إلى محافل التوظيف التقليدية، لكنها أيضا علامة على حرصه على أن يكون الجهاز الإداري للدولة قويا ومتقدما وعلى مستوى عال من الكفاءة والمهنية والجدية ومقاومة ما يشاع حول وساطات وشبهات فساد في عمليات التوظيف.

تحدثت مواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام عن قيام أحد الموظفين الكبار بتعيين نحو 21 من أقاربه في الجهة الإدارية التي يرأس جهاز التوظيف فيها، وتكفي هذه الواقعة للتعرف على مدى تغلغل الفساد في عمليات التوظيف في مؤسسات مختلفة.

ويبدو أن السيسي أراد التأكيد على أنه رئيس لجميع المصريين ولا يفرق بين عسكريين ومدنيين، غير أن حضوره عملية اختيار موظفين في وزارة النقل حمل رسائل عدة، لأن الوزير المسؤول عن هذه الحقيبة هو الفريق كامل الوزير الذي اصطحب منذ توليه الوزارة الكثير من صفاته العسكرية المقبولة والمنبوذة في عرف المدنيين.

اقرأ أيضاً:

من أهم الإشارات التي يمكن استشفافها من وراء هذه المناسبة أن الرئيس المصري مقتنع بأهمية تعميم الصفات العسكرية بين المدنيين بكل معانيها الإيجابية من انضباط وجدية والتزام على المجتمع المدني، لكن آخرين خلصوا منها إلى أنه لا يريد التنصل من انحيازه للمؤسسة الأم التي خرج منها ويعتز بتقاليدها.

بدأ النقاش حول مقاربة العسكرة يزداد في الآونة الأخيرة، ومع تمدد المؤسسة العسكرية في الأنشطة الاقتصادية لم تعد الكلمة محلية فقط. إذ ألقت تقارير دولية الضوء على خطورة ما تنطوي عليه من عيوب في مسألة المنافسة وفرص القطاع الخاص. وناشد صندوق النقد الدولي الحكومة تخفيض هذا الدور وقصره على النواحي الإستراتيجية. وتوقفت كتابات أجنبية عنده في إطار انتقادات واتهامات عدة.

كان تدخل الجيش في الحياة المدنية مقبولا في وقت سابق. أو على الأقل جرى استيعابه وعدم رفض مشاركته بالمرة، وتمنت الكثير من القيادات المدنية المخلصة أن تعمل المؤسسات الحيوية بالكفاءة والحزم والحسم نفسه الموجود في الجيش المصري، وفي المحكات الرئيسية. التي كشفت انحيازه للشعب، مثل الثورات والاحتجاجات، وكانت، ولا تزال. المؤسسة العسكرية القوة الصلبة والضامنة لأمن المصريين وأحلامهم.

دفاع صيني أم هجوم؟

عندما تولى الرئيس السيسي الحكم وجد الكثير من مؤسسات الدولة مفككة ومترهلة. ولم يجد أمامه سوى الجيش للاعتماد عليه لاستعادة القوة والتخلص من جماعات الضغط الداخلية. ومن هنا بدت عملية توسيع دوره في المجال الاقتصادي لغرض الضبط والرفض وليس الهيمنة والسيطرة.

تسبب حرف هذا الهدف عن مساره أحيانا في تحميله مرامي سياسية متباينة. في مقدمتها أن الرئيس السيسي لا يثق سوى في الجيش وأفرعه المختلفة ويريد تعميم نظامه أو إعادة تأهيل المؤسسات المدنية بطريقة عسكرية أو قريبة منها.

اقرأ أيضاً:

لذلك يتلقى أصحاب بعض الوظائف المدنية في الدولة دورات وتدريبات صارمة على يد جنرالات تؤهلهم للتعامل مع حياتهم المقبلة. وهو ما يشي في الظاهر بـ”عسكرة” مقننة، وفي المكون النهائي يحوي غرسا لفلسفة وأفكار النظام الحاكم. التي يسترشد بها كل فرد/ موظف لاحقا وعند أداء المهام الموكلة إليه.

لم تعد التدريبات الأمنية قاصرة على الملتحقين بالسلك الدبلوماسي في الخارج لتأهيلهم للتعامل مع عناصر المخابرات التي يمكن أن تعترض عملهم وطريقهم. بل جرى التوسع فيها لتشمل آخرين وتتجاوز عملية التدريبات المعروفة وتصل إلى مستوى التوعية بأهداف النظام والدفاع عنه. والذي بات هو والدولة في قالب واحد.

تحمل “العسكرة” من هذا الجانب بعدا مهما يصب في خانة الانضباط الذي يسعى إليه الرئيس السيسي، غير أن ما تحمله لدى شريحة من المواطنين يشير إلى ما هو أكبر من ذلك. فمهما جرى التوسع في توظيف قيادات عسكرية ذات كفاءة في مؤسسات مدنية سوف يظل هناك قصور في العدد وإثارة لمخاوف في المضمون.

تعد عملية تأهيل المدنيين على الطريقة العسكرية أسهل وتحل الكثير من المشكلات حول ما يشاع بشأن الهيمنة والسيطرة من قبل الجيش. والذي لديه مهام كبيرة في صميم دوره الذي نشأ من أجله ولا يريد الحياد عنه أو الانخراط في مجالات تقلل من الصورة الذهنية الإيجابية المرسومة عنه في ذاكرة المصريين.

اقرأ أيضاً:

تؤدي عملية الانضباط في المؤسسات المدنية من خلال حضور السيسي إجراء اختبارات لموظفين إلى إرهاقه شخصيا. ولو كان يريد تعزيز احترامه وتقديره للمدنيين والعسكريين على حد سواء. كما يقود هذا الاتجاه إلى نشر تأويلات سياسية. أبرزها أن الرئيس رسم مسبقا صورة للموظف المصري يعمل على تكريسها، وعمادها أن يكون مثل العسكري في طاعته للأوامر.

لا تقل عملية طاعة الأوامر بالنسبة للرئيس السيسي عن الانضباط. وظهرت تجلياتها في الكثير من خطاباته عبر مناشدته المواطنين أن يستمعوا إليه. وعدم تصديق آخرين. وأن كل ما يقوله أو يشير إليه هو الحقيقة، وعلى الجميع أن يثقوا به ثم يحاسبونه. ما يعني أنه يريد العمل بلا مضايقات أو مناكفات المدنيين في إثارة التساؤلات باستمرار. وتكشف القيود المفروضة على وسائل الإعلام في مصر هذه النتيجة بسهولة.

تكمن مشكلة هذا المسار في تنميط المواطنين أو شريحة كبيرة منهم (الموظفون). وما ينجم عنها من تخفيض لحرية الإبداع. فقد يحصل الرئيس على ما يريحه ويحقق أهدافه حاليا. لكن الأزمة سوف تظهر مستقبلا. فالانضباط المغلف بما يشبه العسكرة له فوائد جمة، إلا أنه يحمل بذور خسائر في الجسم المعنوي للدولة.

تحقق مصر نموها وتطورها من قدرة أبنائها، الموظفين والطلبة والفنانين والمثقفين وضباط جيش وغيرهم. على التنوع وإخراج المخزون الإبداعي لهم، كل في مجاله. بينما القولبة من باب الانضباط تحمل أخطر مساوئ “العسكرة” التي جعلت الكثير من المواطنين يقفون منها موقفا سلبيا. ولو حملت في أحشائها جينات سليمة.

محمد أبو الفضلالعرب

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى